إن الإباحية تؤدي إلى التسليع والخزي والوحدة، وهذه الأمور لا تصلح لأن تكون في أي علاقة، ولا سيما الصداقة. نحن البشر مخلوقات اجتماعية، فطرتنا تحثّنا على التواصل مع الآخرين، وتكوين علاقات متنوعة، أهمها الصداقة، فالدراسات أثبتت أنها ضرورية لتنعم بصحة عقلية وجسدية. ويستحيل عوض الأصدقاء الأوفياء، وكلنا تعلمنا ذلك من تجاربنا الشخصية.
إذن ما علاقة الإباحية بالصداقة؟ اتضح أنهما تربطهما علاقة، وعلاقة قوية. كما نتكلم دائمًا عن ضرر الإباحية على العلاقة الزوجية بين الزوج والزوجة، علينا أن نسلط الضوء على تأثيرها على الناس الذين نقضي معظم أوقاتنا معهم، والذين نثق بهم ونعدهم سندًا لنا، أصدقائنا. من أقسى مشاكل الإباحية هي أنها تؤدي إلى العزلة، والتسليع، والخزي، وتشحننا للأسف بمشاعر الوحدة والاكتئاب، وتسحب عواطف من يشاهدها لها فتصبها في عالم وهمي منفصل عن الواقع. ولا يقف تأثيرها عند هذا الحد، بل سنسرد بعض المشاعر التي تشحنها الإباحية وقد تضر بالصداقات.
أثبت علماء النفس أن شعور المرء بالوحدة يزداد كلما ازدادت مشاهدته للمواد الإباحية. يوضح الدكتور غاري بروكس، وهو عالم النفس الذي عالج عددًا من المصابين بعادات إدمان الإباحية السيئة على مدار 30 عامًا، أنه ” لا تعد الأوقات التي اعتاد الشخص قضائها في مشاهدة المحتوى الإباحي لفترة طويلة سوى تجربة محبطة ومهينة تزيد من كرهه لذاته”
وكلما كره المرء نفسه، ازداد بحثًا عن الراحة أينما كانت. ففي مجرى الحياة الطبيعي يلجأ الانسان إلى أقرب الناس إليه في وقت الازمات كالزوج، أو الزوجة، أو الأصدقاء، أو عائلته. في حين أن معظم مدمني مشاهدة الإباحية لا يريدون أن يخبروا أحدًا عن عاداتهم لا سيما أقرب الناس إليهم؛ لذا يلجؤون إلى حل يريحهم وفي متناول يديهم وهو مشاهدة المزيد من تلك المواد. ومع مرور الوقت يجد بعضهم أنفسهم قد ساء وضعهم كثيرًا، لأن العزلة التي تسببت بها الإباحية حرمتهم لذة الجلوس مع أصدقائهم، وممارسة هواياتهم، ومخالطة غيرهم من الناس. وقد يصبح بعضهم منقادين عاطفيًا ونفسيًا لهذه المواد حتى أنهم يفضلونها على ممارسة الجنس في الواقع، والذي يلحق ضررًا جسيمًا بعلاقاتهم.
عبّر عن ذلك أحد مشاهدي المواد الإباحية فقال: “إن مشاهدة المواد الإباحية مسعى للوحدة. فقد كنت أفر لمشاهدة المواد الإباحية كلما شعرت بالوحدة، فلا أجدها إلا قد زادتني وحدة، حتى أصبحت كالعكاز لي أتكئ عليه كلما أصابني الملل أو الإحباط أو الضجر من نفسي”.
يتضح مما سبق أن ابتعاد مشاهدي الإباحية عن العلاقات الطبيعية ومصادر الراحة السليمة يقلق الناس الذين يخالطونهم حتى الأصدقاء.
أظهرت الدارسات أن الاباحية تُشوه أفكار من يشاهدها فيرى الأشخاص على أنهم أدوات جنسية وأجزاء جسدية. فقد أجرى العالمان النفسيان برنستون وستانفورد منذ فترة قصيرة تجربة عرضا فيها مجموعتين من الصور على مجموعة من الرجال، مجموعة الصور الأولى كانت لنساء ملابسهن محتشمة، بينما الأخرى كانت صور لنساء بمظهر جنسي وملابس بالكاد تستر أجسادهن.
وراقب العالمان قشرة الفص الجبهي الإنسي لعينات التجربة لأنه المسؤول عن التعرف على وجوه البشر وتمييز شخص عن آخر، لذلك ينشط عادةً هذا الجزء من الدماغ عند مشاهدة كل صورة. إلا أنه عندما عُرضت صور النساء ذوات المظهر الجنسي لعينات التجربة لم ينشط هذا الجزء، مما يعني أن ردة الفعل التلقائية في أدمغتهم لم تعتبر هؤلاء النساء بشر اعتبارًا كاملًا، بل اعتبروهن أدوات، فركزوا على أجسادهن أو على جزء منها.
واختتم العالمان دراستهما بأن ” النساء ذوات المظهر الجنسي أقل سيطرة على حياتهن ” و”هذا يُشير إلى أن النساء ذوات المظهر الجنسي يُعتبرن غالبًا أدوات تُستعمل، لا شريكات في العلاقة، مقارنة بالنساء المحتشمات”
اقرأ ما قاله هذا المستهلك مبينًا لهذا المفهوم: “اكتشفت أن هذه الصور التي رأيتها تبقى معي. حينما أمشي في الحرم الجامعي وأرى فتيات جميلات كل ما أراه هو أجزاء من أجسادهن. حرفياً عيناي لا يسعمها سوى التركيز على هذه الأجزاء. كما أُصنف لا شعورياً الفتيات المحتملات من خلال مظهرهن الجسدي وإمكانية الارتباط بهن. الإباحية منعتني من رؤية الفتيات كما هن.”
غالبًا ما تعرض المواد الإباحية الأشخاص كأدوات صراحة. وتُصنَّف مقاطع الفيديو الإباحية وتُسمَّى حسب الأفعال المحددة التي يؤدونها أو السمات الجسدية التي يمتلكونها حتى يتمكن المشاهد من “طلب” المادة الإباحية التي تناسب توقعاته بالضبط. ولا عجب أن ينتشر لدى الكثير من الناس أفكار عن الاستحقاق الجنسي والتسليع مع انتشار مشاهدة المواد الإباحية. فاختزال البشر في مصطلحات جسدية وتسميات أنانية هو نوع التسليع الجنسي الذي يمهد الطريق للعنف الجنسي.
وفي الواقع، أثبتت الأبحاث مرارًا وتكرارًا أن مشاهدي المواد الإباحية بكثرة أكثر عرضة لتسليع الآخرين جنسيًا وتجريدهم من إنسانيتهم. ومن المهم التنبيه أيضًا على أن التسليع لا يحدث تجاه النساء فقط، فحتى الرجال معرضون لتسليعهم وتجريدهم من إنسانيتهم في أعقاب المشاهدة المستمرة للإباحية.
عادةً ما تقوم الصداقة السليمة على حب متبادل، واهتمامات، وهوايات، أما التسليع فلا مكان له فيها، وذلك لسبب وجيه، فشعارنا لأي علاقة سليمة هو: البشر ليسوا سلع.
كما قلنا سابقًا، الشعور بالخزي هو أحد العواقب الشائعة لمشاهدة المواد الإباحية، وهو مشكلة متزايدة تؤدي إلى انعزال المشاهدين لوحدهم، وتمنعهم من طلب المساعدة في علاقاتهم. لماذا؟
توضح الدكتورة برين براون الباحثة في الشعور بالخزي وآثاره: “أُعرّف الخزي على أنه شعور أو تجربة مؤلمين للغاية ينتج من اعتقادنا بأننا معيبون وبالتالي لا نستحق الحب والانتماء – وهو شيء جربناه أو فعلناه أو فشلنا في القيام به فجعلنا غير جديرين بالتواصل”.
إن الشعور بالخزي (بدلاً عن الشعور بالذنب الذي يحفز على التغيير للأفضل) يولِّد لدى مشاهدي المواد الإباحية شعورًا عميقًا بوضاعتهم، واعتقادهم بأنهم لا يرتقون إلى مستوى من يحبون؛ مما يؤدي إلى إدمانهم المواد الإباحية، وتفاقم شعورهم بالاكتئاب والتعاسة، وتثبيط عزيمتهم على تغيير سلوكهم المشين. ما الذي يعنيه ذلك؟
تمثِّل المواد الإباحية التي تُفاقم شعور مشاهديها بالخزي حلقة مفرغةً تجعلهم عالقين في إدمانها؛ إذ أنها تفقدهم السيطرة على أنفسهم. وذلك يعني أنهم سينجرفون إلى دوامةٍ من البؤس المتزايد والانطواء على أنفسهم بعيدًا عن علاقاتهم الاجتماعية وأصدقائهم الذين يشعرون بأنهم لا يستحقونهم.
إذا كنت تعمل جاهدًا على التخلص من عادة إدمانية إباحية لا تريد الاستمرار فيها فلست وحدك! لربما تشعر بالوحدة والإحباط، ولكن هناك أمل. نعم، هناك أبحاث خلصت إلى أن مشاهدة المواد الإباحية يؤدي إلى الشعور بالوحدة، ولكن بالمقابل هناك أبحاث أخرى استنتجت إمكانية التغلب على العادات الإدمانية الإباحية وأضرارها. ووفقًا لإحدى الدراسات التي أجريت على أشخاص حاولوا الإقلاع عن إدمان المواد الإباحية، توصل الباحثون إلى أن الشعور بالخزي من شأنه أن يزيد من إدمان المواد الإباحية بينما أن الشعور بالذنب يجعل الشخص يتغير تغيرًا جذريًا وحقيقيًا. لذا، إذا كنت تجاهد لتقلع عن إدمان المواد الإباحية فكن لطيفًا مع نفسك، وصبورًا في مراحل تعافيك. فالدماغ كغيره من أجزاء الجسم يستغرق وقتًا للتعافي، ولكن المجهود اليومي يحدث تغييرًا كبيرًا على المدى البعيد.
نعلم بالحديث عن الانعزال والتسليع والشعور بالخزي أنها أمور سلبية، ولكنها عناصر أساسية في طرق هدم المواد الإباحية للعلاقات الحقيقية، بما فيها الصداقات.
ولكن دائمًا هناك أمل في الإصلاح والتغيير. وبناء على تصريحات شخصية من بعض مدمني الإباحية فإن ما ينقذ تلك الصداقات في كثير من الأحيان هو الانفتاح والصدق، على نقيض ما تدفع الإباحية مشاهديها إلى فعله.
المترجمات: رزان إبراهيم، ربى العريني، ود البلوي، باسمة الشافي، هاجر العمري.
التدقيق النهائي لترجمة المقال: رغد بن حسن.